اسم السفر:
يُدعي في العبرية "بي راشيت" وهي الكلمة العبرية الأولي من السفر نفسه وتعني (في البدء)، أما تسميته "التكوين" فمترجمة عن السبعينية وتعني (الأصل) أو (بداية الأمور).
كاتبة:
موسى النبي، يظن أنه كتبه في مديان عندما كان يرعى غنم حميه يثرون، والأرجح أنه كتبه بعد استلامه لوحي الشريعة. وقد تعلم الكتابة من المصريين الذين تثقف بحكمتهم، وإن كان الذي علّم التلاميذ اللغات يوم الخمسين قادر أن يعلم موسى الكتابة.
غايته وسماته:
1. شغل موضوع الخلقية العالم القديم بكل دياناته وفلسفاته وأدبه الشعبي وكان يحمل مزيجًا من الأساطير والخرافات، لذا التزم موسى أن يسجل في شيء من البساطة التي يمكن أن يفهمها حتى الرجل العامي في شرحه للخليقة بعيدة كل البعد عن الخزعبلات القديمة. ومما يجدر ملاحظته أنه لم يقدم "لاهوتًا خاصًا بالخلق Ktisiology" إنما حدثنا عن الخلق كطريق لتفهم عمل الله الخلاصي. فالوحي الإلهي لم يهدف إلى عرض لاهوتيات وفلسفات خاصة بالخليقة وإنما أراد أن يدخل بنا إلى الخالق الذي يهتم بتجديد الخليقة بعد فسادها. وكما يقول أحد الدارسين: (في إسرائيل كان علم اللاهوت الخاص بالخليقة Ktisiology يعتبر ثانويًا معتمدًا علي علم اللاهوت الخاص بالخلاص Soteriology)[15].
يري القديس ديديموس الضرير في تفسيره لسفر التكوين أن غاية الوحي الإلهي من الحديث عن الخلق هو تصحيح الأفكار الخاطئة التي تسربت إلى إسرائيل في هذا الشأن من العبادات الوثنية المصرية. أما القديس باسيليوس فيؤكد أن عمل الكنيسة ليس دراسة طبيعة المخلوقات (أي الدراسات الفلسفية العقلية الجافة) وإنما النظر في أعمالها ونفعها[16]، وان موسى النبي كتب في بساطة ليؤكد بعض الحقائق التي شوهها بعض الفلاسفة الملحدين، فأكد أن العالم ليس وليد الصدفة[17]، وإنما هو عمل خالق ماهر، وانه ليس أزليًا مع الله ولا يشاركه أبديته إنما له بداية ونهاية[18].
2. أبرز هذا السفر جانبًا هامًا يمس علاقتنا بالله. فالإنسان في نظر الله ليس مجرد خليقة وسط ملايين من المخلوقات الأرضية والسماوية لكنه كائن فريد يحمل السمة الأرضية في الجسد والسماوية في الروح. له تقديره الخاص في عيني الله. وهبة الله الإرادة الحرة التي تميز بها عن سائر المخلوقات الأرضية، فالأرض بكل جبروتها والكواكب بكل عظمتها تسير حسب قوانين طبيعية موضوعة لها، والحيوانات تسلك حسب غريزة طبيعية، أما الإنسان فالكائن الحرّ له أن يختار الطريق ويسلك حسبما يقرر.
من أجل هذا خلق الله الإنسان سيدًا علي الأرض، ومتسلطًا علي كل ما عليها وما تحتها، ما في البحار وما في الهواء... حتى علي الفضاء! لقد وهبه صورته ومثاله وأقامه كسفير له.
وتبرز نظرة الله لنا واعتزازه بنا من شوقه أن ينسب نفسه إلينا متي تأهلنا لذلك، فيدعو نفسه إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب... يود أن يكون إلهًا خاصًا بكل ابن له.
3. أبرز هذا السفر أبوة الله الفائقة للإنسان، فلم يخلقه أسيرًا كما تخيلته بعض الفلسفات المعاصرة، ولا أقامه في مذلة يتحكم فيه كيفما أراد، وإنما أقامه ابنًا محبوبًا لديه، من أجله خلق المسكونة وقد هيأ له الأمجاد الأبدية ليرفعه إلى حيث يوجد الله أبوه ليعيش الإنسان شريكًا في المجد، متنعمًا بالأبوة الفائقة. قيل عن أحدهم أنه إذ كان يحتضر تبسم بفرح وهو يخاطب الله: "هل أنت خلقت العالم لأجلي، أم أنا الذي جبلته؟ الآن أستطيع أن أقول انك قادر أن تشبعني وترعاني!". هذا ما هدف إليه سفر التكوين: يقدم لنا الله الخالق للعالم المادي ومؤسس العالم الروحي. في أبوته الحانية خلق من أجلي السماء والأرض الماديتين لينطلق بي إلى مجيئه الأخير لأنعم بالسماء الجديدة والأرض الجديدة علي مستوي ملائكي أبدي!
4. يري البعض في هذا السفر أنه أهم أسفار الكتاب المقدس، إن صح التعبير. إذ يضع الأساس لكل إعلان، يفتح لنا الباب لإدراك المفاهيم اللاهوتية السليمة، فيعرفنا عن الله وعلاقته، ووصيته الإلهية وعملها في حياتنا. حدثنا عن الأسرة البشرية في الرب كيف انطلق من خلق الإنسان إلى تكوين أسرة مقدسة، فعشيرة ثم شعب لله. كشف لنا عن مفهوم الزواج والحياة الأسرية، كما عرفنا علاقتنا بالجسد والخليقة غير العاقلة. فضح عدو الخير وأعلن خططه المهلكة وشهوته من جهة هلاك الإنسان. أخيرًا يضع السفر الأساس لتاريخ الخلاص والنبوة الخ...
5. الله في حبه للإنسان قدم أسراره له - قدر ما يحتمل - لا للمعرفة العقلية الجامدة وإنما ليدخل معه في صداقة أبدية، وكأنه بالصديق الذي يفتح خزائن قلبه لصديقه حتى يدخل به من يوم إلى يوم إلى أعماق جديدة في الصداقة. فإن حدثنا الرب عن ألقابه الإلهية مثلاً إنما لكي نتعرف عليه خلال هذه الألقاب وننعم بعمله معنا وفينا. فلا نجد في السفر كتابات فلسفية نظرية ومبادئ جامدة وقوانين حرفية، لكننا نري الله متجليًا كصديق، فيتمشى صوته عند هبوب ريح النهار في الجنة ليلتقي بالإنسان الساقط، وفي الحقل يحاج قايين القاتل، وعند ثورة بابل ينزل ليري ماذا يفعل الإنسان، وفي وقت الظهيرة يتقبل مع ملاكيه ضيافة إبراهيم، وفي الطريق يلتقي مع يعقوب في صراع ليحطم اعتداده بذاته...
6. إذ أفسدت الخطية عيني الإنسان وأفقدته القدرة علي اللقاء مع صديقه الأعظم قدم لنا هذا السفر منهج العبادة